حجم الخط

ماتخافيش

1/17/2011 11:23 am

كتب:

 

 

كان الوقت قد حان لإلحاق خالد بالمدرسة.. اخترنا له (والده وأنا) مدرسة وجدناها تتمتع بمزايا كثيرة، وتعد الأفضل علي كل المستويات بين المدارس الأجنبية غير الإيطالية.. 

ورغم أن المدرسة كانت مدرسة أمريكية كاثوليكية والمدرسات والمدرسين راهبات ورهبان إلا أن هذا لم يمثل لنا مشكلة، فهي لا تتسم بصرامة وقيود مدارس الراهبات، بل علي العكس تماما فأسلوب التعليم فيها يعد متعة للأطفال، والمدرسات الأمريكيات رغم كونهن راهبات إلا أنهن يرتدين الأزياء العادية، كذلك المدرسون.. كما لم يقلقنا حضور خالد لحصص الدين والتي بطبيعة الحال يدرس فيها الدين المسيحي، فقد كنا (والده وأنا) نقوم في المنزل بتعليم ابننا كل ما يجب أن يتعلمه طفل في مثل سنه عن دينه، وكنا غير قلقين أبدا من حدوث أي تشوش لدي ابننا بين ما نعلّمه له وكما يرد في ديننا الإسلامي وما سوف يتلقاه داخل فصله .. وأذكر أن خالد كثيرا ما أثار حالة من الجدل حول ما كان يسمعه في حصة الدين من (الأب توماس) ـ أو (توماس) فقط كما يناديه خالد وزملاؤه ـ وما يجد فيه اختلافا عما سمعه من أبيه ومن أمه، أو عندما يريد توضيحا من توماس عما لم يستطع عقله الصغير استيعابه، ويجيبه توماس بأن هناك أسئلة لا إجابة لها أو أنه شيء (mystery) فيرد خالد عليه: (مفيش سؤال معندوش إجابة.. مامي قالتلي أي سؤال لازم يكون له إجابة..) وكم من المرات اشتكي لنا توماس من نقاشات خالد وجدله وخشيته أن يؤدي هذا إلي حدوث نوع من البلبلة لدي الأطفال الآخرين، وكم من المرات أجبته: اسمع مستر توماس أنا وزوجي دائما ما نناقش خالد فيما تقرؤه عليهم من الإنجيل ونوضح له رؤية القرآن فيه، وأعتقد أن عليك أيضا مناقشته ولا تقل له إنه شيء (mystery).. وإذا كنت تحب سنهديك نسخة من القرآن باللغة الإنجليزية كي تقترب مما في عقل خالد، وأهديته النسخة وكانت دهشته كبيرة وسعادته أكبر ـ كما قال ـ للصورة الرائعة والمكانة الكبيرة للسيدة مريم والسيد المسيح في القرآن.. 

كل هذه الأمور لم تمثل لنا مشكلة، لكن المشكلة الكبري التي واجهتنا منذ البداية: أن التلاميذ ـ حسب نظام المدرسة ـ يدخلون الكنيسة الملحقة بها مرتين أسبوعيا برفقة المدرسات والمدرسين.. صحيح أنهم يقضون معظم الوقت في الكنيسة يغنون ويعزفون الموسيقي لكنهم أيضا مع الغناء والإنشاد يتلون الصلوات.. حيرتنا كانت كبيرة محمد وأنا، وتناقشنا كثيرا حول الاختيارين اللذين لا ثالث لهما.. فإما أن يدخل خالد الكنيسة مع التلاميذ، أو أن نبلغ المدرسة برفضنا دخول ابننا الكنيسة وهم يعلمون أنه مسلم، وكان من السهل أن تقبل إدارة المدرسة رفضنا، وفي هذه الحالة سيجلس خالد وحده طيلة فترة وجود زملائه في الكنيسة، سائلا نفسه لماذا أنا هنا وحدي وبقية أصدقائي في الداخل؟ ومهما شرحنا له لن يستوعب عقله وهو في سنه الصغيرة لماذا هو في الخارج وجميع تلاميذ الفصل داخل الكنيسة خصوصا أنهم جميعا من جنسيات مختلفة وتجمعهم فقط اللغة الإنجليزية التي يدرسون بها ويتحدثون بها.. لن تقنعه أي تبريرات ولن يستوعب عقله أي شروحات.. خشينا ردة فعله التي قد تصل إلي أن يكره هذا الدين الذي يتسبب في إبعاده عن بقية أصدقائه وجلوسه وحيدا، واتخذنا قرارنا الجريء بالسماح لخالد بمشاركة زملائه في دخول الكنيسة..

ولكي يطمئن قلبي قمت بالاتصال بوالدي رحمه الله لأخذ رأيه فيما قررناه.. وجاءني صوته عبر الهاتف ودودا طيبا: (.. أنا واثق في تفكير محمد وتفكيرك وفي صحة ما ستصلان إليه من قرار).. ثم قال بصوته الهادئ: (ماتخافيش..) ثم وكأنه كان سامعا لدقات قلبي المذعور رددها ثانية: (توكلوا علي ربنا.. وماتخافيش..)

وجاء اليوم الأول لدخول خالد الكنيسة، ورغم (ماتخافيش) التي كانت ترن في أذني، كنت قلقة لكن محمد كان أقل قلقا بكثير.. وعاد خالد من المدرسة، ومن اللحظة الأولي عرفت أن هناك شيئا يضايقه.. فعندما يلتهب وجهه في عز الشتاء وتحمر خدوده بشدة ويميل برأسه جانبا ملقيا إياه فوق كتفه زاما شفتيه وفي عينيه ملامح الزعل، أدرك أن في الأمور أموراً، وأنه لابد من عقد جلسة النقاش إياها.. 

وبدأت الجلسة بسؤالي: مالك يا لودي؟.. وازدادت النظرة (زعلا) والشفتان (زما).. لودي مالك يا حبيبي؟.. وبصوت هامس: مامي أنا كدبت النهارده.. سألته: كدبت إزاي؟.. وبهمس وخجل المعترف بكذبه قال: (وإحنا في الكنيسة وأصحابي بيغنوا الأغنية بتاعة الصلاة أنا فكرت أعمل حاجة تانية علشان ما أصليش.. ففكرت أقرأ الفاتحة وقعدت أقراها أقراها من غير صوت لحد ما خلصت الصلاة..).. ونظر إليّ ثم أغمض عينيه.. واختطفته في حضني، وضحكاتي تجلجل في المكان.. وجلسنا نتناقش فيما أسماه بالكذب وأشرح له كيف أنه لم يكذب وحقيقة ما فعله..

....... وفي النصف الثاني من العام الدراسي التحقت بفصل خالد تلميذة جديدة من مصر يعمل والدها مستشارا في السفارة المصرية، ورفض والداها دخول ابنتهما الكنيسة خوفا عليها ـ كما قالا ـ .. وفي يوم كنت أقف أمام منزلنا أنتظر وصول خالد من المدرسة، وبمجرد أن فتح السائق باب السيارة نزل خالد جاريا نحوي بدون أن يشير محييا أصحابه أو المشرفة كعادته، وارتمي في حضني باكيا، دخلت به المنزل مسرعة أسأله: إيه حصل؟.. ووسط شهقاته سألني: مامي أنت طيبة صح؟.. سؤاله أربكني والنتيجة جاءت هزات متلاحقة من رأسي لا معني لها.. ولم تعجبه الإجابة وسأل بغضب: صح؟.. أجبت مسرعة: صح.. ازدادت نظرته غضبا وقال: أنت قولتيلي إن الطيبين حيروحوا الجنة.. صح؟.. بسرعة أجبته: صح.. قال: سيستر جين طيبة.. صح؟.. أجبته: صح.. (سيستر جين هي مدرسة الفصل).. ثم كأنه تذكر شيئا مهما سألني سؤالا خبريا بصوت يقترب من الصراخ: لا كمان سيستر جين أطيب منك يا مامي.. صح؟ أجبته كالبرق مؤكدة: صح.. وأصبحت دموعه مطرا وسألني: طيب إزاي سيستر جين موش حتروح الجنة وحتتحرق في النار؟.. سألته: مين قال كده؟.. ازداد بكاء وأجابني: دينا.. (دينا هي زميلته الجديدة في الفصل من مصر).. واندفع شارحا بين شهقاته: (قالتلي إن سيستر جين موش حتروح الجنة وحتروح النار علشان هي مسيحية.. وأنا قولتلها لا سيستر جين طيبة ولازم تروح الجنة وربنا مبيحرقش الطيبين في النار.. قالتلي لا اللي حيروحوا الجنة المسلمين بس..) ثم نظر إليّ نظرة كأنه يتوسل مني عدم حدوث ذلك.. وسألني: صحيح يا مامي سيستر جين حتتحرق في النار؟..).. كنت أسمع خالد وكان داخلي يصرخ: آااااه يا ابني وألف آااااه.. 

للحظات جلست واجمة أفكر أين أنت يا محمد؟ ولماذا اليوم بالتحديد يكون سفرك إلي لندن وأنا مع خالد في روما وحدي أواجه هذه المشكلة التي لم تخطر لنا أبدا علي بال؟.. لحظات ثم تمالكت نفسي، وانعقد مجلس النقاش.. ومددت يدي إلي المكتبة وجلست بجانب خالد ممسكة بنسخة من المصحف مترجمة إلي اللغة الإنجليزية وفتحت سورة البقرة وقرأت له الآية الكريمة (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليه ولا هم يحزنون).. وكم كانت مهمتي شاقة حتى أصل بمعاني الآية إلي عقل وقلب ابني وهو في هذه السن الصغيرة جدا.. 

وبعد عناء نام خالد ينتفض في حضني رغم كل ما فعلته لطمأنته علي (سيستر جين) هذه الراهبة الأمريكية الطيبة إلي درجة تقترب من الملائكية.. 

وجاء أول يوم سبت وهو الموعد الأسبوعي الذي تحضر فيه (سيستر جين) ومعها زميلتها (سيستر مارتينا) لتناول العشاء معنا، ويومها رأيت خالد أكثر التصاقا بسيستر جين، يتأمل وجهها الطيب وابتسامتها الوديعة بعينين يملؤهما القلق، وكأنه يطمئن أن النار لن تحرقها كما أكدت له دينا..

..... واستمر الحال بخالد في مدرسته (الأمريكية الكاثوليكية) سلسا وجميلا، ماعدا صوت (مستر كورادو) مدرس البيانو الإيطالي الذي كان صوته الأجش والعالي دائما ما يخيف خالد.. لكن وبعد سنوات واجهتنا مشكلة: فإجادة خالد للإنجليزية والإيطالية جاءت علي حساب اللغة العربية، ولم يفلح تحدثنا محمد وأنا مع خالد باللغة العربية أثناء فترات اللعب وأيام الإجازة في تعويض هذا، فالدراسة والوقت والمكان والمحيط الاجتماعي كانت ضد ما تمنيناه لابننا في أن يجيد لغته الأم .. فاتخذنا قرارنا الثاني الجريء بأن أسافر وخالد إلي مصر حتى يكون وسط محيط يتحدث اللغة العربية مما سيساعده علي إجادتها شيئا فشيئا، حتى وإن كانت مدرسته في مصر ستكون حتما مدرسة أمريكية..

ودخل خالد المدرسة الأمريكية ورغم صعوبة النقلة إلا أنه وبسرعة أحب مصر وأقبل بشدة علي تعلم اللغة العربية ـ خارج المدرسة ـ مع مدرسة لغة عربية ممتازة أعطته مناهج خمس سنوات في سنة واحدة، وتوقف خالد عما كان يفعله بأن يفكر بالإنجليزية أولا ويترجمه للعربية في عقله ليخرج منه الكلام كما الخواجات، وكم عاكسته كثيرا قائلة: (اخص يا خواجة) وكم أغضبه هذا.. والهدف كان حثه علي التفكير بالعربية مباشرة، وقد تحقق..

وفي مصر وفي البداية ولعدم معرفتي الأماكن استعنت بسائق لنا، وكان لخالد صديقان مقربان (مهند ومايكل) يذهبون معاً برفقة السائق إلي النادي وإلي دروس البيانو.. وذات يوم عاد خالد.. وكأنها السنوات لم تمر.. شاهدت نفس احمرار الخدين وزمة الشفتين وميل الرأس جانبا ونظرة الزعل في عينيه.. وانعقدت الجلسة التي اعتدناها: (مالك يا لودي؟.. أجاب بسؤال: ماما يعني إيه كفتة؟.. أدهشني السؤال: كفتة!! أنت موش عارف الكفتة يا لودي؟!.. أجابني بضيق: موش الكفتة اللي بناكلها مع الكباب يا ماما.. يعني إيه واحد نقول عليه ده كفتة؟.. أجبته: معرفش يا لودي يمكن كلمة هزار؟ أجابني: لا موش كلمة هزار.. عمو محمود (السائق) النهارده قاللي بلاش مايكل يركب معانا العربية وبلاش يبقي صاحبك.. ولما سألته ليه؟ قاللي علشان هو كفتة.. قولتله موش فاهم.. قاللي موش مهم تفهم المهم ما يبقاش صاحبك علشان ربنا يحبك وما يزعلش منك.. يا ماما أنا موش فاهم حاجة خالص..).

ولم أفهم كخالد، لكن استوقفتني عبارة قالها محمود لخالد: (علشان ربنا يحبك وما يزعلش منك) ودق ناقوس الخطر داخلي، واخترت أن أفهم أولا ثم أتحدث مع خالد فطلبت منه إرجاء بقية الحديث حتى الغد... وانتظرت حتى نام خالد وقمت بالاتصال بمحمد في روما وبقلب حزين حكيت له ما حدث من السائق سائلة إياه: أتصرف إزاي يا محمد؟.. وبصوت لم يستطع إخفاء ما فيه من الحزن أيضا أجابني: أثق في تصرفك يا ماما.. زني الأمور بالشكل الذي تجدينه هو الأصح وتصرفي.. واستمرت المكالمة حتى نهايتها وسلمت عليه وسلم علي.. ثم إذا بصوته يناديني عاليا قبل إغلاقي الهاتف: أيوه يا ماما سامعاني؟ وبصوت واهن أجبته: نعم يا محمد معك.. فقال: مش عاوزك تقلقي.. مش عاوزك تخافي.. عارف أنك حتتصرفي صح.. اللي حصل وارد حتى لو لم نتوقعه، حتى لو لم يرد لنا علي بال.. المهم أنك ماتخافيش.. سامعاني ياماما.. ماتخافيش.. 

وهاهي (ماتخافيش) أسمعها منك يا محمد بعد أن سمعتها من بابا من قبل.. مع فارق الزمان والمكان وفارق الظرف..

وفي الغد حضر محمود السائق ليقلني إلي أكاديمية الفنون (حيث كنت أعد رسالة الماجستير).. طلبت منه الدخول وأجلسته أمامي وسألته: محمود يعني إيه كفتة؟ وشاهدت توترا في عضلات وجهه وضحك ضحكة مرتعشة وقال: دي كلمة كده بنقولها حضرتك.. سألته: مين اللي بيقولوها ولمين؟ قال: بنقولها علي الواحد اللى مش مسلم .. سيم يعني.. تحكمت في انفعالاتي وبهدوء شديد عقبت: يعني إيه سيم موش فاهمة؟.. قال: ساعات بنقول كفتة بدل ما نقول الكلمة حضرتك.. سألته: أي كلمة؟ أجاب: بدل كلمة قبطى ثم أكمل مستظرفا: شفرة يعني.. وعندما وجدني صامتة أنظر إليه نظرة جامدة تلعثم قائلا: دي موش شتمة حضرتك دي كلمة هزار حتى هم ساعات بيقولوها علي نفسهم وهم بيضحكوا.. عقبت قائلة: هم!! وكأنه فهم أنني أسأله فأجاب: أيوه والله يافندم هم الأقباط بيقولوها برضه.. وعند هذا الحد كان لابد أن يسكت الكلام.. ونهضت إلي غرفتي.. وفي هذه اللحظة رن الهاتف وترددت في الرد لكنني رأيت رقم الأستاذ عدلي فهيم الكاتب الصحفي الكبير والمستشار الفني لروزاليوسف أو (عمو عدلي) كما أناديه والذي كان يقدمني وخالد لمعارفه قائلا: ابنتي وحفيدي.. رفعت السماعة وبمجرد سماعه لصوتي أدرك عمو عدلي أن هناك شيئا.. وسألني: إيه يا مادي مالك قوليلي فيه إيه؟ أجبته: حااقولك كل حاجة يا عمو عدلي بس بعد شوية.. وأنهيت المحادثة.. 

وعدت إلي محمود، وجلست وسألته: محمود النهارده كام في الشهر؟ أجاب متلعثما النهارده عشرة حضرتك.. فمددت يدي بظرف قائلة: الظرف ده فيه مرتبك عن الشهر ده، وكمان راتب شهرين اعتبرهم كرامة.. (والكرامة عادة تعلمتها من السودان، فعندما تحدث حادثة أو ابتلاء ما أو حتى مرض وينجيهم الله يقومون بعمل كرامة حمدا لله، وفي العادة تكون بذبح خروف وشوائه وأكله مع الأهل والأصدقاء والجيران أو التصدق بثمنه..) سألني: كرامة إزاي حضرتك؟ أجبته: يعني حمد وشكر لربنا لأنه بيحب ابني فعلا وأنقذه في الوقت المناسب، ونهضت.. ولم يعد محمود سائقا لنا أبدا.. 

وجلست أقول لنفسي: واضح أن عهد الخربشات قد بدأ.. (كان عمو عدلي يقول لي كثيرا: أنتي الدنيا ماخربشتكيش أبدا وأنا خايف عليكي من خربشتها خصوصا في مصر، خايف متستحمليش النوع ده من الخربشات..).. ولم يكن ممكنا أن أتصل بأبي أسأله رأيه فيما فعلت لكي يطمئن قلبي.. فلو أنه أجابني ما كنت سأسمعه فما عادت قدراتي تدركه، حيث هو هناك عند خالقه يسمعني ويراني أما أنا فلا.. وقمت بالاتصال بعمو عدلي، وحكيت له ما حدث.. وأطلق عمو عدلي ضحكته الرنانة ـ لكنني تلمست فيها الحزن ـ وقال: كده أول خربشة من الدنيا ليكي يا مادي.. أجبته: لسه قايله ده لنفسي يا عمو عدلي.. أجابني: حتتعبي شوية لكنك قدها وقدود.. روقي وصلي علي النبي كده وصليلك ركعتين (هذا ما قاله عمو عدلي الأرثوذوكسي).. 

وعاد خالد من مدرسته، وحكيت له ما حدث مع السائق ولم ينطق بحرف، وظل صامتا حتى نام دافناً رأسه في صدري كأنه يحتمي هو أيضا بأمه من الخربشات..

واليوم.. وبعد سنوات.. أجلس وحيدة حزينة خائفة، أتأمل ما يحدث برعب وعدم تصديق.. لكنها الحقيقة المرة مرارة العلقم.. اليوم حيث قتل الأخ أخاه في ليلة العيد!! حيث أطلقت الرصاصات الغادرة فنزفت الدماء من الأجساد البريئة فوق أرض وطن واحد للقاتل والمقتول.. وليس مهماً ديانة القاتل ولا ديانة المقتول، المهم أن الوطن هو نفس الوطن وأن القتل كان عشية العيد!! ما هذا المرار يا ربي؟! ليست خربشة هذه، إنه النحر بنصل مسموم.. وأين من سيعطيني النصيحة قائلا: ماتخافيش..؟ 

** ويا بابا أجلس أتذكر صوتك تقولها: ماتخافيش.. ويا محمد أحتاج إليك اليوم أن تقولها ثانية وعاشرا وألفا: متخافيش.. أحتاج إلي نفحات الأمان أستمدها من هدوئك وحكمتك.. أحتاج أن أسمعك تقولها: (سامعاني ياماما.. ماتخافيش..) وإن كنت أشك أن (ماتخافيش) هذه المرة ستفلح معي، فالبلاء وصل إلي أقصي مداه.. إلي أن يقوم الأخ بقتل أخيه عشية العيد.. وليس مهماً أن القاتل مأجور أو جاهل أو ضعيف النفس، العنوان هو المهم وليست التفاصيل.. والعنوان يجعلني خائفة يا محمد.. يجعلني خائفة يا بابا.. يجعلني خائفة يا عمو عدلي.. لست وحدي الخائفة.. كل محب لهذا الوطن لابد أن يخاف.. كل صادق لابد أن يخاف.. وأنا أعلنها: أنني خائفة وإلي درجة لا أحتملها..

** ويا خالد: لا أدري يا حبيبي كيف طاوعني قلبي المكلوم بك والمشتاق إليك كل الشوق يا ضي العين، كيف طاوعنى وأنا أقف اليوم ورخات المطر تغمر وجهي أمام صورتك أتأمل وجهك الجميل بضحكتك الواسعة المذهلة أن أقول: الحمد لله أنك قد ذهبت يا لودي عن هذا العالم القبيح، فكيف بك يا حبيبي أن تكبر وتتزوج وتنجب أبناء يكونون لأمك ولأبيك أحفادا، وتعيش ويعيشون علي أرض وطن يقتل فيه الأخ أخاه عشية العيد؟!.. كيف بك يا من تعلمت الحب والحب فقط، كيف بك أن تعيش وأولادك في عالم دنسته الكراهية؟!.. أحمد الله يا ابني أنك تركت القبح وذهبت إلي حيث الجمال.. أحمد الله لأن عالم الكراهية لا يليق بمن هم مثلك ممن يسري الحب في عروقهم يا خالد.. لقد طاوعني قلبي يا ابني أن أقول ما قلت لأنني أحبك كل الحب..

** ملحوظة:

القراء الأعزاء: هذه المقالة نشرت في عمودي (معكم) بجريدة العربي علي عددين الأول بتاريخ (31 يناير 2010) والثاني بتاريخ (7 فبراير 2010).. أي منذ عام.. كتبتها حينئذ ولم أتخيل أنني سأعيد نشرها مرة ثانية بعد عام ونحن نعيش نفس الظرف، نعيش نفس البلاء.. بلاء قتل الأخ لأخيه في ليلة العيد!!.. 

أعيد نشرها اليوم.. ولن تفلح معي (ماتخافيش) هذه المرة.. فأنا خائفة إلي درجة أمرضتني.. وسأظل خائفة حتى ينقشع البلاء.. فهل سينقشع؟ وكيف؟

 

كاريكاتير

بحث