حجم الخط

ذكريات مع الشاذلي العظيم.. ومرعي الرائع

3/13/2011 11:37 pm

كتب:

رحل قائد عسكري مصري عظيم هو سعد الدين الشاذلي، وفنان مصري عظيم هو صلاح مرعي، خلال أيام ثورة المصريين الكبرى التي اندلعت في 25 يناير 2011 وأثناء انشغالهم بها.
وربما هذا الانشغال يذكرنا ببيت الشعر المشهور لشوقي أمير الشعراء: (اخترت يوم الهول يوم وداع!)، الذي رثى به الأديب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي، حينما رحل في ظل انشغال المصريين بحادثة إطلاق الرصاص على زعيم الشعب سعد زغلول.
لكن من جهة أخرى نستطيع القول إن "الشاذلي" العملاق رئيس هيئة أركان الجيش المصري والقائد الحقيقي لحرب رمضان ـ أكتوبر 1973، و"مرعي" فنان السينما المبدع مصمم الديكور الأهم في السينما المصرية، كل منهما نام قرير العين مطمئن النفس على الوطن، بعد أن هبت الأجيال الجديدة ومعها انتفاض وزحف الشعب المصري كله، لصنع وإبداع ثورة شعبية باسلة هائلة الجسارة، بالغة الرقي والجلال والجمال، تضيف وتضيء أبداً في سجل الأمة والإنسانية في الثورات والحضارة.
إن الجنود العظام لا يموتون.. والمبدعون الأفذاذ لا يغيبون، ومصر الثورة سوف تمتن لهم على طول الزمان، وتلهج بأسمائهم مع كل نهوض وتقدم إلى الأمام وتذكر لهم صنيعهم وإبداعهم بالشكر والحمد العميق والعرفان.
والحق أنني حينما اقتربت من الفريق الشاذلي (الإنسان) ـ في السنوات الأخيرة ـ لاحظت الكثير، بينما أنا وشريكة حياتي نزوره مرات ونحادثه، وقد بدأت الصداقة التي نعتد بها بأن كانت تستشير وتسترشد برؤيته من أجل كتاب لها عن (كامب ديفيد)، وكان يطلق عليها "الجنرال رباب يحيى!" لرضاه عن استيعابها شروحه العسكرية في حديثه عن خطط الحرب ومسألة الثغرة عام 1973، وفي هذه اللقاءات سعدنا كثيراً بمعرفة السيدة الجليلة النبيلة قرينته.
لقد لاحظت بوضوح وقبل أي شيء آخر: كما أننا أمام قائد صلب جسور نادر المثال، ثاقب الرؤية الوطنية العسكرية والسياسية، فإننا بنفس القدر أمام روح شاعرة شفافة، إنسان بالغ الرهافة، عسكري واقعي مدقق لكن بداخله فنان متأمل، وحالم رومانسي جميل.
ويبدو هذا مدهش بالنسبة للعسكريين، خاصة في النظرة التقليدية أو النمطية تجاههم، لكنه وغيره من العسكريين العظام، أمثال رفيق دربه العملاق الشهيد عبدالمنعم رياض، ليسوا فحسب مقدرة عسكري عبقرية تواجه وتخطط وتقاتل، وإنما هم أيضاً أصحاب اهتمامات متنوعة، وعقول مثقفة رفيعة، وقلوب رحبة محبة، لأنها تسع قضية إنسانية ووطنية عادلة، وحقوق أصيلة ومثل عليا.
غادرنا الشاذلي العظيم راضياً مرضياً، مطمئناً على الوطن والأمة، في ذروة الثورة وفاتحة الانتصار الكبير.
غادرنا ولم يبتعد.. في لحظة خلع الطاغية، مبارك الذي كان مثل سلفه ـ السادات ـ يحاول أن يسرق نصر أكتوبر، من صانعيه الحقيقيين، جيوش الإنسان العادي النبيل الباسل، بقيادة كوكبة العسكريين الأفذاذ وأولهم الشاذلي.
بل إن مبارك مثل سلفه، أراد كلاهما بحنق بالغ وحقد غير محدود، الإساءة إلى الشاذلي بالتشهير بل والسجن!!.. لكن سقط كل منهما، وذهبا إلى حيث تظل اللعنات تلاحقهما، بينما الشاذلي ورياض والرفاعي وكل أبطالنا الحقيقيين، سيظلون أبداً في القلوب والوجدان والعيون.. وكيف لا، وهم بحق ـ كما قال الحق ـ (أحياء عند ربهم).. وأحياء عند شعبهم وعند الإنسانية كلها وعلى مر الأعوام والأجيال.
• الفنان الأصيل والإنسان النبيل:
برع صلاح مرعي وكان بالغ التميز في كل ما أبدعه كمصمم في الديكور والأزياء والملصقات.. بل إنه أخرج، ومثل أيضاً، حيث كان ذا حضور حقيقي وأداء تلقائي على الشاشة!.
ومازلت أذكر حديثه المطول معي، وهو يحلم بأن يقوم بإخراج سيناريو أستاذه شادي عبدالسلام (إخناتون)، ليكون عملاً كبيراً آخر بعد رائعة شادي الأولى فيلم "المومياء" الذي تألقت فيه موهبة مرعي كمصمم للديكور.
ومازلت أذكر كيف كان متحيراً لا يدري إلى أي مدى يصدق وعد وزير الثقافة بقيام الدولة بتمويل الفيلم، وهو العائق الأكبر الذي حال دون قيام شادي بإخراج فيلمه.. وأيضاً قال لي وقد سرحت به خواطره إلى بعيد، بروح الإبداع والبراءة للفنان والإنسان: (هل تعرف!.. مشكلتي أيضاً في اختيار الممثل المناسب لإخناتون والممثلة المناسبة لنفرتيتي!.. لا أجد فيمن هم على الساحة الآن، من أتحمس له على الفور.. وأقول أنه الأنسب للدور!).
وكنت أتمنى له ـ ولروح شادي ـ أن يتحقق هذا الإنجاز الإبداعي الكبير على يده، لكني صارحته بأني أشك في وعود وزير الثقافة!.. وقلت له: ليته يفعل.. ولو من باب أن يفاخر، بأنه إذا كان الوزير المثقف العظيم ثروت عكاشة وراء إنجاز العمل الذي احتفى به كل العالم (المومياء)، فإن "فاروق حسني" اليوم وراء إنجاز تحفة شادي الأخرى (إخناتون)!.
لكن مع الأسف، لم يفعل الوزير، حتى ليفاخر!.
وأذكر أيضاً أن الفنانة الكبيرة نادية لطفي صديقة شادي وصلاح، والتي أضاءت "المومياء" بدور صغير جميل لا ينسى، قالت لي وقتها: (لو أن أحداً أخر غير صلاح مرعي اقترب من "إخناتون" شادي.. لقمت بمنعه وضربه!).
كانت ثقة الجميع في مرعي كبيرة، حتى كمخرج لنص وإبداع شادي على الورق، على الرغم من أن الإخراج ليس عمله الأساسي.. وكيف لا؟. وهو الذي كون مع آخرين مبدعين أفذاذ، خاصة المخرج التسجيلي الرائع ـ والإنسان النبيل أيضاً ـ سمير عوف، مدرسة إبداعية جمالية متفوقة، نادرة المثال وبالغة التفرد في السينما بعامة.
وستبقى أعمال مرعي، جديرة بالتأمل العميق والدراسة المتأنية، وبينها تحفته على سبيل المثال: ديكوره لفيلم (الجوع) أحسن أفلام المخرج علي بدرخان.. حيث الفن الأصيل ينبع من إحساس مرهف جميل بالزمن والتاريخ والإنسان.

 

كاريكاتير

بحث