حجم الخط

ثورة الشابي مشاهد ودروس

1/24/2011 1:35 am

كتب:

بهاء طاهر
لا أعرف من الذي وصف ثورة تونس بأنها ثورة إلى اسمين، ولا السبب في تلك التسمية، ولكني متأكد أن للثورة عطراً، كان من حظي أني تنسمت شذاه أكثر من مرة في عمري، فقبل الثورة يكون يأس وخمول، وتتجمد الحياة في عباءة الطغيان الكثيفة والحالكة السواد، ثم تهب ريح الثورة لتخلع تلك العباءة فتكشف كم هي بالية ومهلهلة، وينتشر أريج يوقظ الأرواح النائمة والنفوس الخاملة، وفي هذه المرة إذن فهو عطر إلى اسمين. ما أذكاه!
إن تكن تونس هي التي قطرت العطر حين روته بدماء شهدائها الأبرار، فقد فاض حتى  احتوي وطنا بأكمله من المحيط إلى  الخليج وأيقظه من السبات.
كانوا يغنون في الشوارع «إذا الشعب يوما أراد الحياة» ، ولكنهم كانوا يعرفون الثمن فقد حذرهم الشابي في قصيدته الدرة نفسها «إذا ما طمحت إلى  غاية ركبت المني ونسيت الحذر» وأي غاية أعظم من الحرية وهي الحياة الحقة؟ «فمن لم يعانقه شوق الحياة تبخر في جوها واندثر»!
تلك إذن ثورة جسدت حلم شاعر عظيم لشعب رآه عظيما فحقق الشعب رأيه وحلمه، في لحظة تاريخية عانقه شوق الحياة فاختار الشهادة علي الرضي بالذل، لم نر علي الشاشات التي نقلت لنا الثورة وهي تجتاح شوارع تونس أي قيادات ترفع أي شعارات وإنما رأينا الشعب، والشبان والشابات والكهول والفقراء والمستورين يرفعون مطلبا واحداً: طرد بن علي، ولم نر بالطبع بين المتظاهرين الأثرياء والمحظوظين، سنجد أصابعهم في مرحلة لاحقة وكئيبة وهم يحرضون أذنابهم وتابيعهم من الشرطة علي إطلاق النار علي الثائرين العزل، ورأينا جندهم يلقون القبض علي من تطوله أيديهم من الثوار فلا يكتفون بضربه وتكبيله، بل يتقافزون علي جسده بأقدامهم الغليظة وأحذيتهم القذرة ليحطموا عظامه قبل أن يسحلوه علي الأرض، لو لم يكن للثورة من مبرر غير تلك الوحشية التي رأيناها بأعيننا(والمألوفة عندنا هنا بالطبع!) كفي بها مبررا، كيف يمكن بالفعل التخلص من تلك الفئة من رجال اللاأمن التي تمت تربيتها علي الوحشية والهمجية فأدمنت القهر والتعذيب في تلذذ وسادية مروعة؟ تلك من أولي مهام الثورة ـ إن تعذر علاج هذه القوات المدربة علي الوحشية لتستر آدميتها فليبقوا وراء القضبان حتى  لا يشوهوا وجه الحياة بوجودهم المشئوم وسط البشر العاديين.
وكان من مشاهد بواكير الثورة أيضا غطرسة الطاغية الملعون وهو يجلس خلف مكتبه هادئا منتعشاً ليهدد الثوار بالويل والثبور ويكرر الاسطوانة المشروخة (التي حفظناها هنا أيضا) الإضرابات من صنع عناصر مشبوهة وأيد أجنبية وعناصر مندسة...... إلخ، ولكنه سيقمعها - كما قال بغرور - «وبكل حزم. بكل حزم»، لم يتحرك قلبه الحجري وهو يري أبناء شعبه يسقطون قتلي وجرحي برصاص جنوده الأشرار، وقيل إنه علق علي إحراق الشاب بوعزيزي لنفسه احتجاجا لكرامته المهدرة بعد مصادرة رزقه (صفعة من شرطية من نساء اللا أمن» علق بكلمة واحدة هي «ليمت»! غير أن بوعزيزي لم يمت بل سيظل خالدًا، بذكري عمله الذي أحيا شعباً بأكمله، أما من مات حقا فهو «بن علي» الذي سيمحي اسمه مجللا بالعار من تاريخ هذه الأمة وإن بقي في سجل مجرميها، وقد بدأ احتضاره بالفعل حتى  قبل فراره المذعور علي متن طارئة لا تجد لها مستقرا ولا تجد من يرضي بحلوله في أرضها، بل هو قد مات منذ انهار ذليلا أمام كاميرات التليفزيون مخاطباً الشعب بلهجة لم يعتدها ولم يعرفها طوال حكمه المستبد، متهما هذه المرة مستشاريه بأنهم «غالطوه» ـ غالطوه ربع قرن من الزمان دون أن ينتبه! ـ أما الآن فهو يعد ألا يرشح نفسه لمدة جديدة وبأن يحاكم المفسدين ويطلق الحريات.. إلخ.
الآن وقد حصحص الحق؟
لماذا لا يتعظ الطغاة أبدا؟ لماذا لا يتأملون ويتعلمون هذا الدرس من أخيهم وطائرته التائهة في سماوات القارات؟
ولكن حتى  هذه التوبة المتأخرة ثبت كذبها، إذ أعلن مدير حرسه الرئاسي (قبل القبض عليه) أنه أعد المئات من أعوانه لنشر الحرائق والقتل والخراب في أنحاء تونس (وهو ما رأيناه بأعيينا مع الأسف) وأنذر هذا المجرم الصغير ـ وتمني ـ أن يري الشعب خلال أسابيع من التدمير والتخريب وهو يطالب بعودة المجرم الأكبر وعصابته الدموية لحكم تونس من جديد.
خاب فأله وفأل أسياده، فالشعب التونسي لم ينم ولم يغفل عن ثورته، وهو بعد أن قطع رأس الأفعي وطيره إلى  (جدة) مازال مستمراً في الثورة لتقطيع بقايا جسدها السام والمسموم المسمي حزب الرئيس.
لكني أخشي أن يكون هذا هو الدرس الوحيد الذي يستوعبه طغاة العرب من التجربة التونسية، أخشي أن يعدوا ميليشيات الحرق والتخريب ليثبتوا أنه لا غني عنهم من أجل «الاستقرار» هم لا يعنيهم شيء غير البقاء في الحكم ولو قتلوا العباد ودمروا البلاد، فعلوا ذلك منذ حريق القاهرة قبل الثورة وكرروه علي نطاق أصغر بعد ذلك للبقاء في كراسيهم، فلننتبه وقد رأينا ما جري في تونس لنحمي وطننا من هذا الخطر.
وأخيرا، فأنا لست محللا سياسيا، ولكني تابعت التحليلات التي تعقد مقارنات بين أوضاع تونس والأنظمة العربية الأخري والتي تتمني أن تصل الأمور في البلاد المقموعة إلى  ما وصلت إلى ه في تونس، وأنا أيضا لست حجة في التنبؤات المستقبلية، ولكني مجرد كاتب ودارس للتاريخ وأعرف أن الثورات لا تستنسخ، وإذا ما قامت ثورة في أي بلد فستكون نابعة من ظروفه بالذات وثقافته المحلية ومدي استعداد شعبه للتضحية ودفع ضريبة الدم ثمنا للحرية، وبعبارة أوضح فإن تشابه المظالم ليس حافزا بالضرورة لتشابه النتائج وثورة تونس كما رأيناها ثورة مدنية مائة في المائة، لم نر فيها رايات ترفع شعارات دينية أو غير دينية، والجهات التي تصدرت المشهد أثناء الثورة هي منظمات مدنية ـ اتحاد الشغل (العمال) ونقابة المحامين ونشطاء حقوق الإنسان ولم يبرز حتى  الآن دور لأي منظمات أو أحزاب سياسية.
ولدينا في بلادنا، المنكوبة نفس الطغاة الذين يكررون نفس الجرائم والأخطاء، ولدينا في مصر بالذات عشرات الأسباب للاحتجاج وللتوحد من أجل التغيير ولكنا بدلا من ذلك نغرق في فتنة طائفية ترفع علي الجانبين شعارات دينية تفّرق ولا توحد، ولدينا أحزاب سياسية منهمكة في الانقسامات وتبادل الاتهامات، واتحاد الشغل عندنا مشغول بأشياء أخري غير التغيير شأنه شأن نقابة المحامين والنقابات المهنية الأخري، وقادة الرأي من الكتاب المنوط بهم توعية الجماهير، والمثقفين كلهم مشغولون بانقساماتهم وبمطالب صغيرة أخري بعيدة عن الناس فكيف سيأتي التغيير إذن.
سأقول متفائلاً إن زمن المفاجآت السعيدة لم ينته.
وسأقول في الختام هنيئاً لتونس شاعرها وشعبها وثورتها.
ولنتذكر نحن دائماً قوله «ومن لم يعانقه شوق الحياة تبخر في جوها واندثر!.
سأكون ـ وسنكون جميعًا ـ أسعد الناس حين يعانقنا شوق الحياة.

كاريكاتير

بحث