سألت الله كثيرا أن أعيش حتى أري تلك البداية.. واستجاب لي سبحانه.. ولكنني أعيش فرحتي بها ممتزجة الآن بقلق عنيف رغم إيماني بأن الثورة مستمرة لن تجهض أو ترتد.. ولأتحدث عما يقلقني.. لم يختلف أحد حول وطنية الجيش المصري وتاريخه العظيم.. كما لم يختلف احدنا حول الثقة بهذه المؤسسة الوطنية.. ولم يتقاعس أي وطني عن تأييد والترحيب بالمجلس الأعلي للقوات المسلحة وخطوته في اللحظة الحاسمة..
والتحرير لم يعد اسم ميدان في قلب القاهرة، بل أصبح هدفًا لثورتكم وأصبح ميدانه معظم عواصم المحافظات.. في السويس.. في الإسماعيلية في الإسكندرية في المنيا.. في أسيوط.. في رفح.. بل وصل إلى واحة بعيدة في قلب الصحراء. ثورتكم فريدة من نوعها فليس لها زعيم تتسمي باسمه.. كما كانت مثلاً ثورة عمر مكرم وثورة عرابي وثورة 19 بقيادة سعد زغلول وثورة 23 يوليو بقيادة عبدالناصر.
كشفت أحداث الثورة الشعبية التونسية، ومن بعدها أحداث الثورة الشبابية الشعبية المصرية الوثابة، خلال يناير وفبراير2011 عن حقائق عديدة، أبرزها حقيقتان: 1 ـ عمق التفاعل العضوي على المستوي المجتمعي والشعبي بين الأقطار العربية، فقد تنادي الشعب العربي في جميع الأقطار بما جري في تونس، التي كانت تبدو بعيدة عن قلب حركة الأحداث العربية العامة في السنوات الأخيرة، من وراء أسوار القمع الأمني والعزلة السياسية المفروضة داخلياً وعربياً.
المشهد في التحرير لا يجسد فقط الثورة أو يرمز لها لكنه أصبح فضاء للحرية والفرح، الفرح بكل طقوسه المصرية الأصيلة.. أهازيج وغناء وصلوات وهتافات ولافتات وألعاب ونقاشات وطعام بسيط يتقاسمه الحضور، المعتصمون والزائرون الداعمون. حضور هائل مليوني لم ينبثق نوره منذ رحيل عبدالناصر، أكثر من ربع الشعب المصري ـ نعم أكثر من 25 مليون مواطن ـ أطلوا على الميدان خلال الأسابيع الثلاثة للثورة
توقفت طويلاً أمام صورة سونيا في ميدان التحرير! وسونيا ليست زعيمة سياسية ولا هي إحدي نجمات مدينة الإنتاج الإعلامي، ولا هي من نائبات الكوتة بمجلسي الشعب والشوري، وهي ليست من سيدات المجتمع اللاتي تظهر صورهن في صحف الحكومة. سونيا فتاة مصرية جميلة تنتمي إلى الطبقة التي تعرضت لأساليب القهر والامتهان طوال الثلاثين سنة الماضية.
الآن حدث ما عمل المصريون على تحقيقه منذ سنوات وانتهي نظام حسني مبارك في عمل انتفاضي شعبي شامل لم يحدث في تاريخ مصر عبر العصور. فرغم أن معظم المراقبين كان يتوقع حدوث انفجار اجتماعي سياسي في مصر نتيجة ممارسات النظام السياسي عبر ثلاثة عقود، إلا أن أحدا لم يتوقع أن يحدث الانفجار بالشكل الذي تم به سواء من حيث الحجم أو من حيث القوي الاجتماعية التي قامت به أو حتى المطالب التي تم تقديمها.
وعلي غير انتظار، ولكن بإرادة ثابتة، وبنية صادقة تواعد الشعب على أن يكون الثلاثاء الخامس والعشرين من يناير، عيد الشرطة، وقفة احتجاجية سلمية على النظام في عدة ميادين متفرقة من العاصمة حتى لا يتم حصارها من أجهزة الأمن والشرطة مرة واحدة. وعيد الشرطة هو عيد المقاومة، مقاومة السويس ضد العدوان البريطاني على قسم شرطة الأربعين وهدمه عن آخره. يصبح الآن عيد الثورة القادمة.
تسبقنا الأحداث بجديد كل لحظة، فأنا أكتب الآن بعد منتصف ليل الجمعة العظيمة التي أسقط فيها شباب مصر الطاهر هيكل الطغيان في ثورة مبدعة لا سابق لها، ولكنها احتضنت كل ما هو رائع ونبيل في تاريخنا. ففي ميدان التحرير يومي 25 و 28 يناير ضم شبابنا في ميدان التحرير كل زعمائنا العظام، كان هناك عرابي مجسدًا في شباب يرفعون لافتات شعاره الخالدة «لن نورث أو نستعبد بعد اليوم.
جيل يتحدد فوق المقاعد السلطوية.. منذ سنوات بعيدة.. ويفكر بثقافة سلطوية.. ويقرر بثقافة سلطوية.. ويعيش في زمن التوجيهات العلوية.. ويصدق المقالات الافتتاحية البهلوانية التي يكتبها الصبية الذين وصلوا لمقاعدهم بقرارات سلطوية. وجيل خرج للشوارع.. يفكر.. ويقرر.. ويحلم.. ويري الأوضاع من حوله بعيون مختلفة.. وثقافة مختلفة.. لا تمت لثقافة.. جيل الحكام.. بأدني صلة.. بحكم السن.
لا نستطيع في التقدير أن نفصل أحداث يوم الغضب في مصر عن أحداث أيام الغضب في تونس التي توجت باضطرار زين العابدين بن على إلى الفرار مع أفراد أسرته وأصهاره، كما لا نستطيع في التقدير أن نفصل أحداث مصر وتونس عما يجري في السودان وفي اليمن، بل وحتى في السعودية، ناهيك عما يجري في العراق وما جري في الجزائر. الدافع وراء حالة الغضب واحد، وهو الاستبداد والفساد، فالاستبداد أدي في مصر ـ كما غيرها ـ إلى موت السياسة